Sudan core
رسالة مائية تُنعش كسلا من عمق القاش
وصل نهر القاش الموسمي إلى مدينة كسلا، الواقعة شرق السودان، محمّلًا بكميات كبيرة من المياه في تدفق مبشّر يُعيد الأمل للمزارعين وسكان المدينة على حد سواء، بعد فترة من الجفاف والتراجع في المناسيب خلال المواسم السابقة. ويُعتبر هذا الحدث السنوي من المؤشرات البيئية ذات الأهمية الاقتصادية والاجتماعية في الإقليم، حيث ترتبط حياة آلاف السكان مباشرة بنهر القاش، الذي يشكل شريان حياة للزراعة التقليدية على ضفتيه.
ويعد القاش من الأنهار الموسمية التي تنبع من المرتفعات الإريترية، ويجري لمسافة تمتد إلى الداخل السوداني عبر كسلا، حيث يتفرع إلى عدد من السواقي والقنوات التي تغذي الأراضي الزراعية، قبل أن ينتهي في سهول الطمي الشهيرة. ويُعرف النهر بتقلبه، إذ تتفاوت كميات مياهه من عام إلى آخر، تبعًا لمعدلات الأمطار في الهضبة الإثيوبية والإريترية.
وخلال اليومين الماضيين، رصدت الجهات الرسمية ومواطنون تدفق المياه في مجرى القاش بكميات كبيرة وغير معتادة نسبيًا مقارنة بالسنوات القليلة الماضية، ما بعث ارتياحًا واسعًا وسط المجتمعات الزراعية في المدينة والقرى المحيطة، التي تعتمد على مياه النهر لري المحاصيل، خاصة في ظل ارتفاع تكلفة الري الصناعي وشح الوقود المستخدم في المضخات الزراعية.
وتشتهر كسلا بنظام السواقي المنتشر على ضفتي نهر القاش، وهو نظام تراثي من قنوات الري اليدوية التي يمتد بعضها لأكثر من 20 كيلومترًا، وتُستخدم لري مساحات شاسعة من المزارع التي تنتج محاصيل الذرة، السمسم، المانجو، والموز، إلى جانب الخضروات والفواكه الأخرى التي تزوّد الأسواق المحلية في شرق السودان.
وقال مزارعون من منطقة “ود شريفي” جنوب كسلا، إن تدفق القاش هذا العام يُعدّ الأفضل منذ ما يزيد عن خمس سنوات، وإنهم شرعوا في تجهيز الأرض للزراعة المبكرة، متوقعين موسمًا زراعيًا ناجحًا إذا ما استمر تدفق النهر بهذه الكثافة لفترة كافية. وأضافوا أن ارتفاع منسوب المياه سيسهم كذلك في تجديد التربة وتغذيتها بالطمي الغني بالمعادن، وهو ما يُحسّن من خصوبة الأرض بشكل طبيعي.
من جهتها، أعلنت وزارة الإنتاج والموارد الاقتصادية بولاية كسلا أنها تتابع عن كثب تطورات تدفق القاش، وتعمل بالتعاون مع الإدارات الزراعية والمزارعين على وضع خطة للاستفادة القصوى من المياه، مشيرة إلى أن الاستعداد المبكر يعدّ عنصرًا حاسمًا في استغلال النهر الموسمي بفعالية.
كما حذّرت الجهات المختصة من احتمال حدوث فيضانات مفاجئة في حال ازدياد تدفق المياه بصورة غير متوقعة، داعية المواطنين إلى توخي الحذر، خاصة القاطنين بالقرب من مجرى النهر، واتخاذ التدابير اللازمة لحماية ممتلكاتهم ومزارعهم.
ويأتي تدفق القاش في وقت يشهد فيه السودان أوضاعًا معقدة على الصعيد الاقتصادي والمعيشي، ما يجعل الزراعة الموسمية أحد أهم أدوات الصمود لدى سكان الولايات الطرفية مثل كسلا، الذين يعتمدون بشكل شبه كامل على الموارد الطبيعية لتأمين سبل العيش والغذاء.
وبالرغم من التحديات المتعلقة بالبنية التحتية المتهالكة وغياب الدعم الفني والمالي للمزارعين، فإن موسم القاش الحالي يحمل آمالًا جديدة لمجتمعات كسلا، التي ترى في كل فيضان طبيعي بداية دورة حياة جديدة، ومصدر رزقٍ كريم ينتظر من يستغله بالحكمة والخبرة الموروثة عبر الأجيال.
ويرى خبراء في الزراعة أن كسلا تمتلك مقومات قوية لتكون نموذجًا للزراعة الموسمية المستدامة، إذا ما توفرت لها الاستثمارات المناسبة وتحديث وسائل الري والتخزين، إضافة إلى فتح الأسواق أمام منتجاتها التي تُعد من الأجود على مستوى السودان، خاصة المانجو الذي تُعرف به الولاية.
في النهاية، يبقى نهر القاش أكثر من مجرد مجرى ماء عابر؛ إنه رمز للحياة في مدينة عُرفت بجمالها الطبيعي وتنوّعها الزراعي، ويجدد حضوره في كل موسم رسالة الطبيعة التي لا تخذل من يؤمن بالزراعة سبيلًا للعيش الكريم.
ahmed
