
📖 رواية: حكايات على سور كبري أم درمان
✍️ بقلم: الشابي
—
كان الزمان نهارًا دافئًا، والناس تتزاحم عند مدخل كبري أم درمان القديم، تحديدًا عند منطقة الملاهي، حيث السور الطويل الذي لطالما ازدحم بعبارات الإيمان والأمل:
آيات قرآنية، أحاديث نبوية، حكم ومواعظ، رسمت ذات يوم في صمت، لكنها خاطبت ضمائر العابرين.
ذاك السور، كان مشروعًا نفذته إحدى المنظمات الخيرية، وذات يوم أتاني تكليف:
– “يا شابي، محتاجينك تجدد اللافتات… نمسح القديمة ونكتبها من جديد، أجمل، أبهى.”
استجبت.
حضّرت الفرش، علب البوهية، والأهم من ذلك، مجموعة من العمّال.
بدأنا في عز العصر، الوقت الذي تصبح فيه حركة المرور عند الكبري كأنها عروق نابضة لا تهدأ.
السيارات تتكدس، الميكروباصات تتثاءب على الطريق، وصوت الأبواق يعلو على ضجيج الأحاديث.
—
وبينما نحن نمسح البوهية القديمة، تناثرت التعليقات كالرصاص:
– “ليه مسحتها؟!”
– “صحي بوش قال ليك امسحها؟!” (وكان المقصود طبعًا بوش، رئيس أمريكا وقتها).
ضحكت، وقلت ساخراً:
– “أيوه، بوش اتصل بي وقال لي: يا شابي لو ما مسحتها، بجي أحلق ليك دقنك!”
ضحكوا، وساد جو من الدعابة.
ثم شرحت لهم بلغة بسيطة:
– “يا جماعة، نحن ح نمسحها عشان نكتبها أجمل من الأول… استنوا شوية، وتعالوا شوفوها بعد أيام.”
—
وقت الكتابة، كانت لي طريقتي الخاصة…
ما لازم أبدأ من أول اللوحة، لأني صممت الكتابة أولاً بالقلم الرصاص، وكل حرف في مكانه.
أنا شايفه، لكن المارّة يشوفوني بكتب بالمقلوب، فيندهشوا.
واحد من السائقين صاح: – “إنت مالك بتكتب بالمقلوب؟ حرّقت روحنا!”
فقلت له بابتسامة واثقة:
– “تعال بكرة، بتلقى الكتابة دوغرية، ومفرحة كمان.”
—
ثم…
اقترب مني شاب نحيل، في عينيه فضول وصمت.
قال لي: – “أنا خطاط… لكن داير أتعلم كيف أمسك الفرشاة من غير ما أوسّخ ملابسي ولا يديّ.”
نظرت إليه…
قلت له:
– “شوف… أولاً، لازم تمزج البوهية كويس، لا تكون تقيلة ولا خفيفة.
– لما تغمس الفرشاة، ما تطمسها كلها… بس الثلث.
– بعدين، امسح الحافة على طرف العلبة، وبعدين أكتب…
– الطمسة الواحدة بتكفي تلاتة أرباع الكلمة، وخلّي يدك ثابتة.”
راقبني بهدوء… ثم أعطيته الفرشاة.
وكانت المفاجأة:
أنجز اللافتة كأنه يكتب على ورق ناعم، لا نقطة بوهية نزلت على ملابسه، ولا لطخة على يديه.
اليوم التالي… جاء مبكرًا، وأكمل معي كل العمل.
صار ذراعي الأيمن، بل اعتمدت عليه في مشروعات أخرى.
—
هكذا، في لحظات بسيطة…
من خلف سورٍ قديم، وكتابة على حائط، تولد روح فنية جديدة، ويتشكل حلم في يد شاب.
أدركت حينها أن الكليات لا تُعلّم كل شيء.
الحياة هي الجامعة الكبرى، والسوق هو ميدان الخبرة، والحبر الذي لا يجف هو الصبر والشغف.
—
📌 يتبع… أواصل إن شاء الله نشر المزيد من ذكرياتي