
وداع القيثارة النوبية… عندما يصمت “مكي”
ودّع السودان والعالم الفن النوبي أمس الثلاثاء 8 يوليو 2025، برحيل الفنان والشاعر والملحن المبدع مكي علي إدريس، الذي غيّبه الموت في مستشفى الشرطة بمدينة دنقلا بالولاية الشمالية . جاء الخبر كخسارة موجعة للهوية الثقافية السودانية، وخصوصًا للشعب النوبي، الذي فُقد أحد صوته الملهَم وأحد أعمدة التراث الفني.
نشأ مكي علي إدريس في مدينة عبري بحاضرة السكوت بالولاية الشمالية ، وتلقي تعليمه في كلية الموسيقى بجامعة السودان، ليحفر اسمه كأحد أعلام الحركة الثقافية من 1971 وحتى 1992 . لم يكن مكي مجرد فنان، بل باحث موسيقي ولغوي، أبدع في كتابة الشعر بالأوردو النوبية والعربية، وتعمّق في دراسة حضارة النوبة وتراثها .
ترك الفقيد إرثًا فنيًّا غنيًّا، من أبرز أعماله أغنية “عديلة”، التي ظلت متناغمة على ألسنة السودانيين، وألحان “كجبار”، التي خرجت من رحم معاناة شعبه ضد محاولات بناء السد بولاية الشمالية . عبر تلك الأعمال، نقل مكي الصوت النبيل للتراب النوبي، وكان صوتًا للمقاومة والتعبير الثقافي عن هموم الناس وأحلامهم .
رحل مكي علي إدريس مساء أمس في دنقلا، ونُقل جثمانه إلى بلدته عبري حيث ووري الثرى بين أهله ومحبيه، وسط مشاعر حزن عميق وعزاء مؤلم من النوبيين عامة والسودانيين خاصة . وأعلنت المنظمة النوبية للثقافة وإحياء التراث والتنمية نعيها، مؤكدة أن الفقيد كان رمزًا للهوية النوبية وصوتها النبيل، وأن موروثه الفني سيظل حاضرًا في الذاكرة الجماعية .
على صفحات التواصل الاجتماعي، شارك نشطاء ثقافيون تعازيهم، ووصفوا مكي بأنه “ذاكرة حية” و”ركن أصيل في التراث النابض بالحياة” . كما أشادوا بإسهاماته الموسيقية والبحثية، التي شكلّت مدرَسًا باللغة والتراث النوبي.
ولطالما كان مكي سفيرًا للنوبة، حيث حمل أدواته مثل الطنبور كرمزٍ للثقافة والمقاومة، ودرّس أجيالًا، وشارك في حركات فنية هدفها الحفاظ على الذاكرة الجماعية وإثراء التراث السوداني .
رحيل مكي يُعدّ فقدًا ثقافيًا، في وقت يعيش فيه الفن النوبي تحوّلات وهو أمام تحديات العولمة وتآكل الهوية التراثية. لا ينافسه في حضوره أحد، فقد كان جسرًا بين الماضي والحاضر، يمدّ الأجيال بأشعار وألحان لا تنطفئ.
رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته، وجعل أعماله ذخيرة للأجيال القادمة من البحث والفن، رمزًا للوصال العميق بين الإنسان والمنجز الفني، وأيقونة لا تموت.