رواية: الكرسي الصعب… والقلوب الأصعب
بقلم: الشابي
حين التحقتُ بشركة سك النقود السودانية في عام 1995م، كنت أحمل بداخلي شغف الفن، وأحلم أن أترك أثرًا في كل عمل يُنتج داخل تلك الجدران. لم تمضِ أيام كثيرة، حتى صُدمت بأول امتحان حقيقي، لا في العمل، بل في الناس.
عينتني الإدارة رئيسًا لقسم التصميم والنقش والميداليات. المنصب لم يكن مجرد لقب، بل مسؤولية ثقيلة في مؤسسة تعني بالرموز والسيادة الوطنية. لكن للأسف، لم يكن الجميع سعداء بهذا القرار.
كان بعض الزملاء، ممن تجاوزت خدمتهم العشرين عامًا، يرون في تعييني ظلمًا لتاريخهم، بينما الحقيقة أنهم لم يلفتوا يومًا نظر الإدارة بطلب التكليف أو تقديم المبادرات. بدأت تظهر العراقيل، وتعمد بعضهم تعطيل الأعمال، فقط ليُثبتوا أن وجودهم كان أحق مني.
وجاء أول اختبار كبير…
بعثة من جهاز الأمن والمخابرات كانت ستسافر إلى فرنسا في دورة تدريبية، وطلب الجهاز عمل ميداليات تذكارية فاخرة كإهداءات رسمية تُقدم للمخابرات الفرنسية. كانت المهلة فقط ثلاثة أيام. الأمر عاجل ومهم.
قسمنا كان في قلب هذه المهمة. جهزت التصميم بنفسي وسهرت عليه، لكن باقي الأقسام التي يجب أن تُكمل التنفيذ تلكأت، وتجاهلت توجيهاتي المتكررة.
وصل الأمر إلى الإدارة. وحين عرف نائب المدير العام بتعمد التعطيل، اتخذ قرارًا حاسمًا:
> “إجازات مفتوحة لكل من عرقل العمل.”
في لحظةٍ كنت خارج الشركة. وعند عودتي، بلغني القرار. شعرت بالمرارة، لا لأنهم يستحقون العقوبة، بل لأن قلبي لا يحتمل أن يُقصى زميل بسبب خلاف في وجهة نظر.
دخلت على نائب المدير وقلت له:
ــ “يا سعادة المدير… رغم ما فعلوه، عشاني، رجّعهم. ما داير قلبي يشيل عليهم.”
قال لي بتعجب:
ــ “لكنهم سبب التعويق، وأنا فقط أردت أن أوضح أن الشركة تمضي بدونهم.”
أصريت، بل توسلّت، لا لأني ضعيف، بل لأن القوي هو من يسامح.
فوافق، وتم تعديل القرار من إجازة مفتوحة إلى أسبوعين فقط.
—
وفي نهاية اليوم، قررت أن أذهب إليهم… واحدًا تلو الآخر، إلى بيوتهم.
طرقت الأبواب، وقلت لهم:
ــ “رجعوا الشغل بعد أسبوعين. كل شيء انتهى.”
كانت الصدمة بادية على وجوههم. بعضهم ظن أنني السبب في إيقافهم، فكيف أكون أنا من يسعى لإرجاعهم؟
لم أجادلهم. فقط ابتسمت، وسلمت، ومضيت.
—
بعدها بسنوات، وقف بعض شباب الدعوة في الخرطوم يكرمونني في الساحة الخضراء، وجدت نفسي أستلقي على العشب، أتنفس الطمأنينة، وأتأمل أن الله لا يضيع المعروف مهما صغر، ولا يكافئ الحقد مهما علا.
الصورة التي ترونها كانت في تلك الليلة. هاتف بيدي، ماء بجانبي، وقلبي مطمئن… لأني لم أخن ضميري يومًا، لا في عمل، ولا في زمالة.
وأواصل بإذن الله نشر المزيد من ذكرياتي القديمة المتنوعة…
#الشابي









